فصل: (سورة البقرة: الآيات 99- 101):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة البقرة: الآيات 92- 93]:

{وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92)}.
{وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ} يجوز أن يكون حالا، أى عبدتم العجل وأنتم واضعون العبادة غير موضعها. وأن يكون اعتراضا بمعنى: وأنتم قوم عادتكم الظلم. وكرّر رفع الطور لما نيط به من زيادة ليست مع الأول مع ما فيه من التوكيد {وَاسْمَعُوا} ما أمرتم به في التوراة {قالُوا سَمِعْنا} قولك {وَعَصَيْنا أمرك}.
فإن قلت: كيف طابق قوله جوابهم؟ قلت: طابقه من حيث أنه قال لهم: اسمعوا، وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة، فقالوا: سمعنا، ولكن لا سماع طاعة {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} أى تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الثوب الصبغ.
وقوله: {فِي قُلُوبِهِمُ} بيان لمكان الإشراب كقوله: {إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارًا}.
{بِكُفْرِهِمْ} بسبب كفرهم {بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ} بالتوراة، لأنه ليس في التوراة عبادة العجاجيل. وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم، كما قال قوم شعيب {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ} وكذلك إضافة الإيمان إليهم.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} تشكيك في إيمانهم وقدح في صحة دعواهم له.

.[سورة البقرة: الآيات 94- 96]:

{قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)}.
خالِصَةً نصب على الحال من الدار الآخرة. والمراد الجنة، أى سالمة لكم، خاصة بكم، ليس لأحد سواكم فيها حق. يعنى إن صحّ قولكم: {لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا}.
و{النَّاسِ} للجنس وقيل للعهد وهم المسلمون {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} لأنّ من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم والتخلص من الدار ذات الشوائب، كما روى عن المبشرين بالجنة ما روى. كان على رضى اللَّه عنه يطوف بين الصفين في غلالة، فقال له ابنه الحسن: ما هذا بزي المحاربين: فقال: يا بنيّ لا يبالى أبوك على الموت سقط، أم عليه سقط الموت. وعن حذيفة رضى اللَّه عنه أنه كان يتمنى الموت، فلما احتضر قال: حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم. يعنى على التمني. وقال عمار بصفين: «الآن ألاقى الأحبة محمدًا وحزبه». وكان كل واحد من العشرة يحب الموت ويحنّ إليه. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهودى».
{بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بما أسلفوا من موجبات النار من الكفر بمحمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم وبما جاء به، وتحريف كتاب اللَّه، وسائر أنواع الكفر والعصيان.
وقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} من المعجزات، لأنه إخبار بالغيب، وكان كما أخبر به، كقوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} فإن قلت: ما أدراك أنهم لم يتمنوا؟ قلت: لأنهم لو تمنوا لنقل ذلك كما نقل سائر الحوادث، ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى المطاعن في الإسلام أكثر من الذرّ، وليس أحد منهم نقل ذلك. فإن قلت: التمني من أعمال القلوب وهو سرّ لا يطلع عليه أحد، فمن أين علمت أنهم لم يتمنوا؟ قلت: ليس التمني من أعمال القلوب، إنما هو قول الإنسان بلسانه: ليت لي كذا، فإذا قاله قالوا: تمنى، وليت: كلمة التمني، ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب ولو كان التمني بالقلوب وتمنوا لقالوا: قد تمنينا الموت في قلوبنا، ولم ينقل أنهم قالوا ذلك فإن قلت: لم يقولوه لأنهم علموا أنهم لا يصدّقون. قلت: كم حكى عنهم من أشياء قاولوا بها المسلمين من الافتراء على اللَّه وتحريف كتابه وغير ذلك مما علموا أنهم غير مصدقين فيه ولا محمل له إلا الكذب البحت ولم يبالوا، فكيف يمتنعون من أن يقولوا إنّ التمني من أفعال القلوب وقد فعلناه، مع احتمال أن يكونوا صادقين في قولهم وإخبارهم عن ضمائرهم، وكان الرجل يخبر عن نفسه بالإيمان فيصدّق مع احتمال أن يكون كاذبا لأنه أمر خافٍ لا سبيل إلى الاطلاع عليه.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} تهديد لهم {وَلَتَجِدَنَّهُمْ} هو من وجد بمعنى علم المتعدي إلى مفعولين في قولهم: وجدت زيدًا ذا الحفاظ ومفعولاه هم أحرص. فإن قلت: لم قال: {عَلى حَياةٍ} بالتنكير؟ قلت: لأنه أراد حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة، ولذلك كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبيّ {على الحياة}.
{وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} محمول على المعنى لأن معنى أحرص الناس: أحرص من الناس. فإن قلت: ألم يدخل الذين أشركوا تحت الناس؟ قلت: بلى، ولكنهم أفردوا بالذكر لأن حرصهم شديد. ويجوز أن يراد: وأحرص من الذين أشركوا، فحذف لدلالة أحرص الناس عليه. وفيه توبيخ عظيم: لأنّ الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم، فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقرّ بالجزاء كان حقيقا بأعظم التوبيخ. فإن قلت: لم زاد حرصهم على حرص المشركين؟ قلت: لأنهم علموا- لعلمهم بحالهم- أنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون ذلك. وقيل: أراد بالذين أشركوا المجوس، لأنهم كانوا يقولون لملوكهم: عش ألف نيروز وألف مهرجان. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنه: هو قول الأعاجم: زى هزار سال. وقيل {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} كلام مبتدأ، أى ومنهم ناس.
{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} على حذف الموصوف كقوله: {وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ} والذين أشركوا على هذا: مشارٌ به إلى اليهود، لأنهم قالوا: عزير ابن اللَّه. والضمير في {وَما هُوَ} لأحدهم و{أَنْ يُعَمَّرَ} فاعل بمزحزحه، أى: وما أحدهم بمن يزحزحه من النار تعميره. وقيل: الضمير لما دل عليه يعمر من مصدره، وأن يعمر بدل منه. ويجوز أن يكون {هو} مبهما، و{أن يعمر} موضحة. والزحزحة: التبعيد والإنحاء. فإن قلت: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} ما موقعه؟ قلت: هو بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف. فإن قلت: كيف اتصل لو يعمر بيودّ أحدهم؟ قلت: هو حكاية لودادتهم.
و{لو} في معنى التمني، وكان القياس: لو أعمر، إلا أنه جرى على لفظ الغيبة لقوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} كقولك: حلف باللَّه ليفعلنّ.

.[سورة البقرة: الآيات 97- 98]:

{قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهدًى وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98)}.
روى أنّ عبد اللَّه بن صوريا من أحبار فدك حاجّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وسأله عمن يهبط عليه بالوحي، فقال: جبريل، فقال: ذاك عدوّنا، ولو كان غيره لآمنا بك، وقد عادانا مرارا، وأشدّها أنه أنزل على نبينا أنّ بيت المقدس سيخربه بخت نصر، فبعثنا من يقتله فلقيه ببابل غلاما مسكينا، فدفع عنه جبريل وقال: إن كان ربكم أمره بهلاككم فإنه لا يسلطكم عليه، وإن لم يكن إياه فعلى أى حق تقتلونه. وقيل: أمره اللَّه تعالى أن يجعل النبوّة فينا فجعلها في غيرنا.
وروى أنه كان لعمر رضى اللَّه عنه أرض بأعلى المدينة، وكان ممرّه على مدارس اليهود، فكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم، فقالوا يا عمر، قد أحببناك، وإنا لنطمع فيك فقال: واللَّه ما أجيئكم لحبكم، ولا أسألكم لأنى شاك في دينى، وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى اللَّه عليه وسلم، وأرى آثاره في كتابكم، ثم سألهم عن جبريل فقالوا: ذاك عدوّنا يطلع محمدًا على أسرارنا، وهو صاحب كل خسف وعذاب، وإنّ ميكائيل يجيء بالخصب والسلام. فقال لهم:
وما منزلتهما من اللَّه تعالى قالوا: أقرب منزلة، جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره.
وميكائيل عدوّ لجبريل. فقال عمر: لئن كانا كما تقولون فما هما بعدوّين، ولأنتم أكفر من الحمير، ومن كان عدوًا لأحدهما كان عدوًا للآخر، ومن كان عدوًا لهما كان عدوًّا للَّه. ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: لقد وافقك ربك يا عمر.
فقال عمر: لقد رأيتنى في دين اللَّه بعد ذلك أصلب من الحجر. وقرئ: {جبرئيل}، بوزن قفشليل و{جبرئل} بحذف الياء، وجبريل بحذف الهمزة، وجبريل بوزن قنديل، وجبرالّ بلام شديدة. وجبرائيل بوزن جبراعيل، وجبرائل بوزن جبراعل. ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة. وقيل معناه: عبد اللَّه. الضمير في {نَزَّلَهُ} للقرآن. ونحو هذا الإضمار- أعنى إضمار ما لم يسبق ذكره- فيه فخامة لشأن صاحبه، حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه، ويكتفى عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته عَلى قَلْبِكَ أى حفظه إياك وفهمكه {بِإِذْنِ اللَّهِ} بتيسيره وتسهيله. فإن قلت: كان حق الكلام أن يقال: على قلبي. قلت: جاءت على حكاية كلام اللَّه تعالى كما تكلم به، كأنه قيل: قل ما تكلمت به من قولي: من كان عدوّا لجبريل فإنه نزله على قلبك. فإن قلت: كيف استقام قوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} جزاء للشرط؟ قلت: فيه وجهان:
أحدهما إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته حيث نزل كتابا مصدقا للكتب بين يديه، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم.
والثاني: إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه نزل عليك القرآن مصدقا لكتابهم وموافقا له، وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم، ولذلك كانوا يحرفونه ويجحدون موافقته له، كقولك: إن عاداك فلان فقد أذيته وأسأت إليه. أُفرد الملكان بالذكر لفضلهما كأنهما من جنس آخر، وهو مما ذكر أنّ التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات. وقرئ: {ميكال}، بوزن قنطار. وميكائيل كميكاعيل. وميكائل كميكاعل. وميكئل كميكعل. وميكئيل كميكعيل. قال ابن جنى: العرب إذا نطقت بالأعجمى خلطت فيه. {عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ} أراد عدوّ لهم فجاء بالظاهر، ليدل على أنّ اللَّه إنما عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة كفر، وإذا كانت عداوة الأنبياء كفرًا فما بال الملائكة وهم أشرف والمعنى من عاداهم عاداه اللَّه وعاقبه أشدّ العقاب.

.[سورة البقرة: الآيات 99- 101]:

{وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)}.
{إِلَّا الْفاسِقُونَ} إلا المتمرّدون من الكفرة. وعن الحسن: إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنه: قال ابن صوريا لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آية فنتبعك لها فنزلت. واللام في: {الْفاسِقُونَ} للجنس والأحسن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب {أَوَ كُلَّما} الواو للعطف على محذوف معناه أكفروا بالآيات البينات وكلما عاهدوا. وقرأ أبو السمال بسكون الواو على أنّ الفاسقون بمعنى الذين فسقوا، فكأنه قيل: وما يكفر بها إلا الذين فسقوا، أو نقضوا عهد اللَّه مرارًا كثيرة.
وقرئ: {عوهدوا} و{عهدوا} واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود، وكم أخذ اللَّه الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا. وكم عاهدهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فلم يفوا {الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ}. والنبذ الرمي بالذمام ورفضه. وقرأ عبد اللَّه نقضه فَرِيقٌ مِنْهُمْ وقال فريق منهم، لأنّ منهم من لم ينقض {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} بالتوراة وليسوا من الدين في شيء، فلا يعدّون نقض المواثيق ذنبًا ولا يبالون به كِتابَ اللَّهِ يعنى التوراة، لأنهم بكفرهم برسول اللَّه المصدق لما معهم كافرون بها نابذون لها. وقيل: كتاب اللَّه القرآن، نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول.
{كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أنه كتاب اللَّه لا يدخلهم فيه شك. يعنى أنّ علمهم بذلك رصين، ولكنهم كابروا وعاندوا ونبذوه وراء ظهورهم، مثل لتركهم وإعراضهم عنه، مثل بما يرمى به وراء الظهر استغناء عنه وقلة التفات إليه. وعن الشعبي: هو بين أيديهم يقرءونه، ولكنهم نبذوا العمل به. وعن سفيان: أدرجوه في الديباج والحرير وحلوه بالذهب، ولم يحلوا حلاله ولم يحرّموا حرامه. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}.
التفسير:
هذا نوع آخر من قبائح أفعال اليهود، والسبب في نزوله أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أتاه عبد الله بن صوريا من أحبار فدك فقال: يا محمد، كيف نومك؟ فقد أخبرنا عن نوم النبي صلى الله عليه وسلم الذي يجيء في آخر الزمان، فقال صلى الله عليه وسلم تنام عيناي ولا ينام قلبي. قال: صدقت يا محمد، فأخبرنا عن الولد من الرجل يكون أو من المرأة؟ فقال: أما العظام والعصب والغضروف فمن الرجل، وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة. فقال صدقت. قال: فما بال الولد يشبه أعمامه دون أخواله، أو يشبه أخواله دون أعمامه؟ فقال: أيهما غلب ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له. قال: صدقت. قال: أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه وفي التوراة أن النبي الأمي يخبر عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: «أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضًا شديدًا فطال سقمه فنذر لله نذرًا إن عافاه الله من سقمه ليحرّمن أحب الطعام والشراب على نفسه وهو لحمان الإبل وألبانها» فقالوا: اللهم نعم. فقال له: بقيت خصلة إن قلتها آمنت بك. أيّ ملك يأتيك بما تقول عن الله؟ قال: جبريل قال: ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة، ورسولنا ميكائيل يأتي باليسر والرخاء. فإن كان هو يأتيك آمنا بك. فقال عمر: ما مبدأ هذا العداوة؟ فقال ابن صوريا: إن الله أنزل على نبينا أن بيت المقدس يخرب في زمان رجل يقال له بختنصر، ووصفه لنا فطلبناه فلما وجدناه بعثنا لقتله رجالًا فدفع عنه جبريل وقال: إن سلطكم الله على قتله. فهذا ليس هو ذاك وإن لم يكن إياه فعلى أي حق تقتلونه. ثم إنه كبر وقوي وملك وغزانا وخرب بيت المقدس فلهذا نتخذه عدوًا. وأما ميكائيل فإنه عدو لجبريل.
فقال عمر: فإني أشهد أن من كان عدوًا لجبريل فهو عدو لميكاكئيل، وهما عدوان لمن عاداهما، فأنكر ذلك على عمر فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين. وقيل: كان لعمر أرض بالمدينة أعلاها، وكان ممره على مدراس اليهود، وكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم. فقالوا: يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك. فقال: والله لا أجيئكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني، وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأرى آثاره في كتابكم. ثم سألوه فقالوا: من صاحب صاحبكم؟ فقال عمر: جبريل. فقالوا: ذاك عدوّنا يطلع محمدًا على أسرارنا، وهو صاحب كل خسف وعذاب، وإن ميكائيل يجيء بالخصب والسلام. فقال لهم: وما منزلتهما من الله؟ قالوا: أقرب منزلة جبريل وهو عن يمينه، وميكائيل عن يساره، وميكائيل عدوّ لجبريل. فقال عمر: إن كان كما تقولون فما هما بعدوّين، ولأنتم أكفر من الحمير. ومن كان عدوًا لأحدهما كان عدوًا للآخر، ومن كان عدوًا لهما كان عدوًا لله. ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد وافقك ربك يا عمر». قال: لقد رأيتني في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر. وعن مقاتل: زعمت اليهود أن جبريل عدونا أمر بأن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا. والأقرب في سبب عداوتهم إياه أنه كان ينزل بالقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم كما يشعر بذلك قوله: {فإنه نزله} أي إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه نزل عليك القرآن مصدقًا لكتابهم وموافقًا له وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم، ولذلك كانوا يحرّفونه ويجحدون موافقته له كقولك إن عاداك فلان فقد آذيته وأسأت إليه أو إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته حيث نزل كتابًا مصدقًا للكتب بين يديه، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في النزول بما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم. ويمكن أن يتوجه الجزاء إلى قوله: {بإذن الله}.
إلى آخره. أي إن عاداه أحد فلا وجه لعداوته لأنه لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه وباختياره وإنما جاء به بإذن الله وأمره الذي لا محيص عنه ولا سبيل إلى مخالفته وجاء به مصدقًا هاديًا مبشرًا، فهو من حيث إنه مأمور وجب أن يكون معذورًا، ومن حيث إنه أتى بالهداية والبشارة يلزم أن يكون مشكورًا. فعداوة من هذا سبيله عداوة الله، ولو أنه تعالى أمر ميكائيل بذلك لانقاد لأمره أيضًا لا محالة ولتوجه الإشكال عليه، فما الوجه في تخصيص جبريل بالعداوة؟ وجبريل ممتنع من الصرف للعلمية والعجمة بشرطها. وعن ابن عباس وغيره أن معناه عبد الله، والضمير في نزله للقرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه كالمعلوم مثل قوله تعالى: {ما ترك على ظهرها من دابة} [فاطر: 45] وهذا النوع من الإضمار فيه فخامة لشأن صاحبه حيث جعله لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه. وأكثر الأمة على أن القرآن إنما نزل على محمد لا على قلبه، لكن خص القلب بالذكر لأن السبب في تمكنه صلى الله عليه وسلم من الأداء ثباته في قلبه، فمعنى على قلبك حفظه إياك وفهمه. وقيل: أي جعل قلبك متصفًا بأخلاق القرآن ومتأدبًا بآدابه كما في حديث عائشة «كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن» وكان حق الكلام أن يقال على قلبي إلا أنه جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به كأنه قيل: قل ما تكلمت به من قولي {من كان عدوًا لجبريل فإنه نزله على قلبك} ومعنى {مصدقًا لما بين يديه} موافقًا لما قبله من كتب الأنبياء فيما يرجع إلى المبادئ والغايات دون الأوساط التي يتطرق إليها الاختلاف بتبدل الأزمان والأوقات. ومعنى قوله: {وهدى وبشرى} أن القرآن يشتمل على أمرين. أحدهما بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأفعال الجوارح فهو من هذا الوجه هدى، وثانيهما بيان أن الآتي بتلك الأعمال كيف يكون ثوابه فهو من هذا الوجه بشرى، والأول مقدم على الثاني في الوجود فقدم في الذكر أيضًا. ولا ريب أن البشرى تختص بالمؤمنين، وأما الهدى فلأنهم هم المنتفعون به كما مر في {هدى للمتقين}. ولما بين في الآية المتقدمة أن من كان عدوًا لجبريل لأجل أنه نزل القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وجب أن يكون عدوًا لله تعالى، بين في الآية التالية أن من كان عدوًا لله وللمخصوصين بكرامته فإن الله يعاديهم وينتقم منهم. والعداوة بالحقيقة لا تصح إلا فينا لأن العدو للغير هو الذي يريد إنزال المضار به، وهذا التصور يستحيل في حقه تعالى من العاقل المتفطن لا الغافل المتغابي. فمعنى قوله: {من كان عدوًا لله} أي لأولياء الله كقوله: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} [المائدة: 33] {إن الذين يؤذون الله ورسوله} [الأحزاب: 57]. أو يراد بذلك كراهتهم القيام بطاعته وبعدهم عن التمسك بدينه، لأن العدو لا يكاد يوافق عدوه وينقاد لأمره. قال أهل التحقيق: عداوتهم لله وملائكته نتيجة عداوة الله لهم ونظره إليهم في الأزل بالقهر «هؤلاء في النار ولا أبالي» كما أن محبة المؤمنين لله نتيجة محبة الله إياهم {يحبهم ويحبونه} [المائدة: 54] وذلك أن صفات الله تعالى قديمة وصفات الخلق محدثة، والأولى علة الثانية. وأفرد الملكان بالذكر دلالة على فضلها كأنهما من جنس آخر، فإن التغاير في الوصف قد ينزل منزلة التغاير في الذات، ولأن الآية نزلت فيما يتعلق بهما فحسن أن ينص على اسميهما. وتقديم جبريل في الذكر يدل على أنه أفضل من ميكائيل وأيضًا أن جبريل ينزل بالوحي والعلم وذلك سبب بقاء الأرواح، وميكائيل ينزل بالخصب والرزق وهو سبب بقاء الأبدان.
والواو في جبريل وميكائيل بمعنى {أو} لأن عداوة أحد هؤلاء توجب عداوة الله كما أن عداوة كلهم توجب ذلك، ويحتمل أن يكون الواو على الأصل ويعرف ما ذكرنا من القرينة.
وقوله: {للكافرين} من وضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أن عداوة هؤلاء كفر. الآيات البينات هي آيات القرآن، ولا يبعد أن تشمل سائر معجزاته وإن كان لفظ الإنزال نابيًا عنه بضع النبوّ. ومعنى كون الآية بينة أن العلوم تنقسم إلى ما يكون طريق تحصيله، والدليل الدال عليه أكثر مقدمات فيكون الوصل إليه أصعب، وإلى ما يكون أقل مقدمات فيكون الوصول إليه أقرب وهذا هو الآية البينة. والكفر بها إما جحودها مع العلم بصحتها، وإما جحودها مع الجهل وترك النظر فيها والإعراض عن دلائلها، وليس في الظاهر تخصيص فيدخل الكل فيه، والفسق هو خروج الإنسان عما حد له إلى الفساد ويقرب منه الفجور، لأنه مأخوذ من فجور السد الذي يمنع الماء من أن يصير إلى الموضع الذي يفسد. عن الحسن: إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره. ولهذا لا يوصف صاحب الصغيرة بالفسق وإن تجاوز عن أمر الله تعالى كمن فتح من النهر نقبًا صغيرًا لا يقال: إنه فجر النهر. وفي قوله: {إلا الفاسقون} وجهان: أحدهما أن كل كافر فاسق ولا ينعكس، وكان ذكر الفاسق أولى ليأتي على الكافر وغيره. الثاني أن المراد وما يكفر بها إلا الكافر المتجاوز عن كل حد في كفره. وهذه الآيات لما كانت بينة لم يكفر بها إلا الكافر الذي بلغ في الكفر النهاية القصوى، وهذا نوع آخر من فضائح اليهود. عن ابن عباس أنهم كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعث صلى الله عليه وسلم من العرب كفروا به وجحدوا بما كانوا يقولون فيه فقال لهم معاذ بن جبل: يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل الشرك، وتخبروننا أنه مبعوث وتصفون لنا صفته. فقال بعضهم: ما جاءنا بشيء من البينات وما هو بالذي كنا نذكر لكم فنزلت. واللام في {الفاسقون} للجنس أو إشارة إلى أهل الكتاب.
{أو كلما} الواو للعطف على محذوف معناه أكفروا بالآيات البينات؟ وكلما عاهدوا واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا، وكم عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفوا الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة. وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن من يعتاد منه هذه الطريقة لا يصعب على النفس من مخالفته كصعوبة من لم تجر عادته بذلك.
والنبذ الرمي بالذمام ورفضه، وإنما قيل {فريق منهم} لأن منهم من لم ينقض بل أكثرهم لا يؤمنون بالتوراة وليسوا من الدين في شيء، فلا يعدون نقض المواثيق ذنبًا.
{ولما جاءهم رسول} أي كتاب لتلازمهما بدليل كتاب الله وهو القرآن، نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله، يعني أن علمهم بذلك رصين من قبل التوراة ولكن المكابرة هجيراهم، ونبذه وراء ظهورهم مثل لإعراضهم عنه وتركهم العمل به. وقيل: كتاب الله التوراة لأنهم لكفرهم برسول الله كافرون بها. وعن سفيان: أدرجوه في الديباج والحرير وحلوه بالذهب ولم يحلوا حلاله ولم يحرّموا حرامه. اللهم ارزقنا العلم بكتابك والعمل به. اهـ.